كتبت / فاطمة حسن الجعفرى
” يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ”
[المائدة: 54]
“إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللَّهَ فاتَّبِعوني يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ”
مراتب المحبة الخالصة الكاملة لله تعالى :
هى أن نصل إلى المحبة الإلهية المطلقة ،
ويعبر الصوفيون عن هذه المرتبة بما يعرف في اصطلاحاتهم الخاصة : بمرتبة الفناء في الحضرة الإلهية
أي : إلى مرتبة التحقيق الذاتي
لقوله تعالى : “يُحِبُّهُمْ وَيُحِبّونَهُ ”
لقد رسم مشايخهم الطريق الشرعي العملي الأقصر للوصول إلى مرتبة الحب الكامل ، وذلك من خلال الفهم الصحيح والتطبيق لنصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة حسب الاجتهاد الرباني لهم .
إن نقطة الانطلاق للحب – في الطريقة – تبدأ من الفهم الصحيح
لقوله تعالى :
” إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللَّهَ فاتَّبِعوني يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ” ،
فهي تنص على أن محبة المسلم لله تعالى غير مجدية ما لم تقترن باتباع حضرة الرسول الأعظم ،
فهذا الاتباع يوصل العبد إلى مرتبة المحبوبية ، أي يصبح من أحباب الله ، ومن يحبه الله فهو ذو حظ عظيم .
وبمعنى أخر : إن المحبة لله إذا لم تكن مقرونة باتباع الرسول فإنها محبة صورية وليست محبة حقيقية ،
أي محبة وهمية يخدع الإنسان بها نفسه ،
قال تعالى :
” يُخادِعونَ اللَّهَ والَّذينَ آمَنوا وَما يَخْدَعونَ إِلّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرونَ ”
، وأما المحبة الحقيقية فهي التي نصت الآية الكريمة على ان السبيل الوحيد للوصول إليها هو اتباع الحضرة المحمدية المطهرة .
وتأكيداً على أمر الاتباع المطلق ، بين الله في كتابه الكريم أنه لا يجوز للمؤمنين أن يجعلوا من أحد ، بما في ذلك أنفسهم ، أقرب إليهم من الرسول كما في
قوله تعالى :
” النَّبِيُّ أولى بِالْمُؤْمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ”
ولقد جسد المسلمون الأوائل من الصحابة الكرام هذا التفضيل المطلق لحضرة الرسول الأعظم على النفس في كل أمورهم ، ومن ذلك ذودهم بأجسادهم وأرواحهم عن حضرة الرسول الأعظم خلال معاركهم مع أعدائهم من المشركين والكافرين .
إن الأمر القرآني بتقديم الرسول على النفس يعني تقديمه على كل الخلق ، قريبهم وبعيدهم ،
ولذلك جاء الحديث الشريف :
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين .
إن هذا الاتباع والتفاني لحضرة الرسول الأعظم لدى القوم – ، هو الحجر الأساس في سبيل سلوك طريق المحبة الإلهية .
وهو ما نعبر عنه في مصطلحات القوم : بالفناء في الرسول ،
ولكن كيف السبيل للوصول إلى هذا الفناء عند المتصوفة ؟
يقولون :
من الواضح أن الوصول إلى هذا الاتباع المطلق أو الفناء في حضرة الرسول الأعظم في زمن ظهوره .
كان مقترناً بأمرين :
الأول : ما يحاول الصحابي أن يبذله في سبيل طاعة الرسول الطاعة الكاملة .
الثاني : ما كان يفيضه حضرة الرسول الأعظم على صحابته من أحوال التزكية ، التي كانت تطهر نفوسهم ، وتسمو بأرواحهم إلى حالات من الشفافية ، تستشعر فيها روحانيته الشريفة ونورانيته المقدسة ، فتنجذب لروحه أرواحهم ، ولصفاته صفاتهم ، ولأفعاله أفعالهم ،
فلا يعودون بعدها يحبون شيئاً في الوجود كله كحبهم له .
إذاً ما يبذله الصحابي من إيمان وتسليم وطاعة للرسول ، وبالمقابل ما يبذله حضرة الرسول الأعظم لهذا الصحابي من فيوضات حبية نورانية يغمر بها كيانه ، هو ما يوصله إلى الفناء في محبته . وهذا الفناء يوصله بالتالي إلى محبة الله تعالى .
وقد نص حضرته على ذلك بقوله :
“إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا ”
وللحديث رواية أخرى اشهر وآكد عند الفقهاء والاصوليين ( كتاب الله وسنتي )، فصار السير على منهج الوارث المحمدي من أهل البيت ( حسب التعبير الصوفي ) ،
والوفاء له ، والإخلاص في طاعته ، ومحبته هو السبيل للوصول إلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم .
إن الحب وهو أسمى وأرقى أنواع العلاقات في الوجود يتأتى نتيجة صفاء القلب ونقائه مما فيه من شوائب مختلفة الألوان ، وتظل العلاقة بين المحب ومحبوبه تسمو وتظهر وتتشابك لتؤدي إلى تطويع إرادة المحب تحت تصرف محبوبه ، وفي نهاية المطاف يمنح المحب أغلى ما لديه واشرف ما يملكه لمحبوبه وهو روحه التي بين جنبيه .
إنها الميل الدائم نحو المحبوب ، والإيثار له ، وهذه بداية بحارها التي لا قرار لها ، يعقبها لحظة من أخطر لحظات المحب بأن ينسى نفسه ، فتذوب صفاته في صفات محبوبه ، فلا يدرك شيئاً إلا ما أراد ورغب ، ويسعى المحب بكل جهوده إلى موافقة محبوبه في رغباته لأرضائه ، فيكون كل كثير عنده قليل حينما يمنحه له ، وكل قليل لدى المحبوب كثير في نظر المحب .
فالمحبة في نظر المحبين :
بأن يضع المحب أفعاله ونفسه وماله ووقته لمن يحب منحة منه له ، كما يقتضي من المحب أن يمحو من القلب كل شيء سوى المحبوب ، وهذا كمال المحبة ، أما إذا كان في القلب بقية لغير المحبوب ، فالمحبة مدخولة ، ولا يزال المحب غاضباً على نفسه حتى يرضى محبوبه .
لقد اتخذ مشايخ الصوفية محبة الشيخ وسيلة لتوصيل المريد إلى المحبة المحمدية والإلهية ،
لأن الحب هو واسطة انتقال التأثيرات الروحية ، لكونه حالة تتجاوز الحواجز المكانية ولا تعتمد على ما يصل بالحواس من أمر الحبيب .
نخلص إلى القول ولا زالت المصطلحات للقوم وللقوم فقط :
إن اتباع الوارث المحمدي ( شيخ الطريقة ) يوصل إلى محبته ، وهذه المحبة هي الطريق إلى محبة حضرة الرسول الأعظم ، وهي الطريق الوحيدة إلى محبة الله تعالى .
ترتيب المحبة في منهج الطريقة الصوفية :
يأتي ترتيب المحبة في منهج طريق التصوف عموما في مرتبة الوسط بين بداية السلوك ونهاية الوصول ،
فالمحبة هي الطريقة التي من خلالها تتلاشى المسافات غير الحسية المعبر عنها بالحجب بين العبد وربه .
إنها الطريقة التي تجعل العابد ينتقل من الحضور مع العبادة إلى الحضور مع المعبود فيعبد الله كأنه يراه ،
ثم توصله إلى مرتبة فناء العابد في المعبود ، حيث يذوب بنور المحبة ، فلا يبقى منه لنفسه شيء ،
فيذهب المحب الفاني وتتجلى فيه أنوار المحبوب الباقي ، أي يفنى عن نفسه ويبقى بربه .
إن أوضح نص شرعي يكشف حقيقة المرتبة الوسطية للمحبة ومدى تأثيرها في حياة المريد الروحية ويتمسك به الصوفيون في هذا الباب هو
قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح :
” لا يزال عبدي يتقرب ألي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ،ولئن سالني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه … الحديث .
والملاحظ في هذا الحديث انه نص على مراتب ثلاث :
الأولى : مرتبة المحافظة على العبادة ( الفرائض ) والاكثار من النوافل .
الثانية : وهي مرتبة المحبة ، أي محبة الله للعبد ،
الثالثة : مرتبة الفناء في حضرة المحبوب ،
ولو قلنا إن المحبة موضوع صوفي بامتياز، ما خالفنا الحقيقة، بل أكّدنا على حقيقة موضوعية من جهة، ومن جهة أخرى أحلنا النظر إلى مسالك أخرى في إنتاج المحبة، مسالك بمقدورها لو أحسن استثمارها، أن تكون قيمة مضافة لمجموع مسالك إنتاج المعرفة المتعلّقة بالعلوم الإسلامية، وخاصة في ظل تسليك راشد يقوم عليه أهل المحبة في تصرفاتهم المتجلية في شعب الحياة، تتكشّف محبتهم في الشأن الثقافي والاجتماعي والتربوي ثم بعدها السياسي، كموقف من متغيرات الزمان وضروراته وفق ما تمليه استحقاقات الأمة في الوقت الراهن .
اخترنا لبحث المسألة، وفق ما أشرنا إليه، الاستناد الى كلام احد اكابر الصوفية ،
إنّه عبد القادر السهروردي، صاحب كتاب “عوارف المعارف”، سنتوقف في دراسة المسألة عند القضايا الآتية :
– بواعث المحبّة عند السهروردى
يقول رحمه الله :
“الصوفي هو الذي يكون دائم التصفية لا يزال يصفي الأوقات عن شوب الأكدار بتصفية القلب عن شوب النفس، ويعينه على كل هذه التصفية دوام افتقاره إلى مولاه، فبدوام الافتقار ينقى الكدر، وكلما تحرّكت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها ببصيرته النافذة وفر منها إلى ربّه، فبدوام تصفيته جمعيته، وبحركة نفسه تفرقته وكدره؛ فهو قائم بربه على قلبه، وقائم بقلبه على نفسه،
قال تعالى :
“كونوا قوامين لله شهداء بالقسط”، وهذه القوامة لله على النفس هو التحقق والتصفية .
التصوف والحب :
أسماء التصوف المتداولة تدل بمجموعها على مركزية المسألة الأخلاقية، والتي يُعَدُ الحب محورها الرئيسي ، يستفاد هذا المعنى من مختلف تلك التسميات من نحو :
“علم الأخلاق”، و”علم الحقائق والمنازل”، و”علم الأحوال”، و”علم المعاملة والإخلاص في الطاعات”، و”علم السلوك”، و”علم الأسرار”، و”علم القلوب”، و”علم المعارف”، و”علم الإشارة”، و”علم الرياضة ومكائد الشيطان”، و”علم المكاشفة و المشاهدة”
فالأسماء تشير بمجموعها إلى لغة القلوب التي قوامها المحبّة، لهذا لا تُعْرف كلمة من أسماء المعاني شغلت الصوفية كما شغلتهم كلمة “الحب”، ويكفي أن تتذكّر أنّ أناشيد الصوفية تتمحور كلّها على الحب، وأنّ التصوّف لا يصلح إلا بفضل الحب، ولا يفسد إلا بسبب الحب، فالحب هو الأول والآخر .
ذلك أنّ منزلة المحبة سامية وما سُمِّيَت محبّة إلا لأنّها خلصت إلى حبّة القلب، مجتمع العروق فجرت وشربت منها عروقهم حتى رويت ، وليست المحبّة غير صفاء المودّة، لأنّ العرب يسمون صفاء بياض عين الإنسان حبّة الإنسان كما يقال لصفاء سويداء القلب حبّة القلب، فصار الأول محلّ الرؤية، والثاني محلّ المحبّة .
لهذا يتعين للكتابة عن التصوف، التوقّف مليا عند الحب فكرة ومزاولة عند أهله الصادقين، ويفرض هذا المسعى فك التخليط المقصود بين الألفاظ والمعاني من جهة، والتشنيع على القوم أو إنزالهم منزلة الأنبياء، فلا التهويل من شأنهم ينفع، كما لا ينفع أيضا التهوين من شأنهم من جهة أخرى، كما يطلب أن نتوقّف عند التمييز بين التصوف من حيث وظيفته، والتصوف في واقع الناس من جهة أخرى، بغية إبعاد التشويش عن المصطلح ودفع محاولات تعويمه على الأقل، خوفا من أن لا يصبح للمصطلح معنى في عالمه الخاص.
ونظرا لما للحب من حضور جلي في أدبيات الصوفية فإنّ الكتابة في التصوف كتابة عن الرتب التربوية في مسالك أهل التصفية والتزكية والتسليك، كتابة في لغة القلوب وعنها، والتي تمثّل بوظائفها التربوية ورسالتها الاجتماعية والحضارية طريقا سريعا إلى نيل قرار التعيين في المقرّبين عند الله، والانخراط في رتب التربية الروحية، تلك الرتب التي تُعَد –بحق وحقيقة- مراقي الدرجات الرفيعة ومنازل أصحاب الهمم العالية ، فليست المحبّة غير سعي مستمر للترقي في سلم الأحوال أو المقامات بحسب منزلة الساعي إلى نيل الرتب، ذلك أنّ المحبّة صفة تجذب القلوب والأرواح والعقول وتدفعها إلى الترقي، إنّها جُهْد إرادي كسبي في أصل وضعه، قوامه التطهّر من الأوصاف الذميمة والتحلي بالصفات الحميدة، وكلّما تطهّرت النفس من الذمائم مالت الروح إلى المحبة .
فالمحبة ليست مفصولة عن الإرادة والسعي في أصل وضعها، من هنا كانت المحبّة في أصل وجودها ومبعث استمرارها فعلا متدرجا مستمرا،يفرض جهدا دائبا وسعيا لنيل مؤهلات نيل المحبة والمحافظة عليها.
يتبيّن مما سلف تقريره أن المحبّة عند الصوفية قوامها تحصيل مؤهلات تيسّر نيلها والمحافظة عليها، هي أشبه بالمطية، فمن فقدها فقد الوصول، والمحبّة عند السهروردي لم تخرج عن تلك المعاني والشروط العامة، وتفصيل القول فيها يدفعنا إلى الانتقال إلى الفكرة اللاحقة.
المحبة عند السهروردي
يستهل السهروردي حديثه عن المحبّة بحديث النبي المصطفى صلى الله عليه وسلّم: “اللهم اجعل حبّك أحبّ إليَّ من نفسي وسمعي وبصري وأهلي ومن الماء البارد”.
– بواعث المحبّة عند السهروردي :
يرى السهروردي أنّ الحديث المشار إليه من أهمّ بواعث المحبة، فقد اشتمل على مجموع مكوّنات الإنسان؛ فمنها محبّة الروح، ومنها أيضا محبّة القلب، ومحبّة النفس، ومحبّة العقل، ولكلّ دورها ووظيفتها، كما أنّ لكلّ منها بواعثها الخاصة وإن اشتركت من حيث جعله الالتزام بالسُنَّة مبعثها الرئيس جميعا، ويجمعها من جهة ويسوقها إلى المقصود إن كانت خالصة لله في مجموع المسارات المشار إليها، وذلك أنّه إن تعلّقت الروح والقلب والعقل والنفس في حبّها بالله طلبت خالص الحب، فيكون العبد بهذا محبّا لله تعالى بكليّته، فيكون حب الله باعثا رئيسا على استئصال كلّ محبة من عروق الإنسان؛ فيكون حبّ الله غالبا، وهنا تظهر نتائج تلك المحبّة، فيحب الله بقلبه وروحه وكلّيته، حتى يكون حب الله تعالى أغلب في جميع أحواله، فيصير طبعا وسجية وجبلة أكثر من حب الماء البارد، كأنّه يتحوّل من كسبي إلى فطري يلازمه في كلّ حال، وليس بمقدوره التنصّل منه .
وهذا الحب الخالص الصافي موفور لخواص تنغمر به وبنوره نار الطبع والجبلة، فلا تكون إلا على وفق ما طلب المحبوب، أما غير الخاصة، والذين خصّهم السهروردي بالحب العام، فلهم نمط آخر من الحب، ولهذا توقّف السهروردي عند نمطين رئيسين من بواعث المحبّة، فالخواص يكون حبهم المنبعث من محبّة الذات (المحبوب) نتيجة عن مشاهدة بعكوف الروح وخلوص المحبّة إلى مواطن القرب، وشرط المحبّ، أن تلحقه سكرات المحبّة، فإذا لم يكن ذلك لم يكن حبه فيه حقيقة، من هنا انتقل إلى تقسيم الحب إلى قسمين؛
فقال : الحب حبان : حب عام، وحب خاص،
ولكلّ بواعثه ووظائفه، وليس في التقسيم طبقية، بل هي قسمة وظيفية، تيسّر الفهم، وتدفع المنتمين إلى القسم الأول إلى بذل الجهد لأجل الانتقال إلى القسم الثاني،كما تشير إلى أنّ لكلّ الناس حظهم من الحب، فما عليهم إلا تعهّده بالعناية والحماية والتنمية، وفق ما يحقق الأبعاد الإنسانية المتجلية في شعاب الحياة .
– التخلّق بأخلاق الله
بمعنى الاتصاف بالأخلاق التي طلب الله التحلي بها، وهو الذي عبّر عنه حقيقة قول الرسول صلى الله عليه وسلّم: (تخلّقوا بأخلاق الله)، لأنّه بنزاهة النفس وكمال التزكية يستعد للمحبة، والمحبة موهبة غير معللة بالتزكية، ولكن سنة الله جارية أن يزكي نفوس أحبائه بحسن توفيقه وتأييده، وإذا منح نزاهة النفس وطهارتها ثم جذب روحه بجاذب المحبة خلع عليه خلع الصفات والأخلاق، ويكون ذلك عنده رتبة في الوصول؛ فتارة ينبعث الشوق من باطنه إلى ما وراء ذلك لكون عطايا الله غير متناهية، وتارة يتسلى بما منح فيكون ذلك وصوله الذي يسكن نيران شوقه، وبباعث الشوق تستقر الصفات الموهوبة المحققة رتبة الوصول عند المحب.
– التحلي بصفات المحبوب على البدل
تدخل عليه صفات المحبوب على البدل من صفات المحب، سئل الجنيد عن المحبّة، قال: دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب، قيل هذا على معنى قوله تعالى في الحديث القدسي: (فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا)،
وذلك أنّ المحبة إذا صفت وكملت لا تزال تجذب بوصفها إلى محبوبها؛ فإذا انتهت إلى غاية جهدها وقفت والرابطة متأصّلة متأكّدة، وكمال وصف المحبة أزال الموانع من المحب، وبكمال وصف المحبة تجذب صفات المحبوب تعطفا على المحب المخلص من موانع قادحة في صدق الحب، ونظرا لقصوره بعد استنفاد جهده، يعود المحب بفوائد اكتساب الصفات من المحبوب.
– الهداية طريقها المحبة
من نال المحبة هُدِي إلى طريق الهداية، فمن قوله تعالى: ﴿ويهدي إليه من ينيب﴾، أثبت كون الإنابة سببا للهداية في حق المحب، وفي حق المحبوب صرح بالاجتباء غير معلل بالكسب .
– الإخلاص نتيجة المحبة
ذلك أن صدق المحبّة يفرض أن تهب لمن أحببت كلّك فلا يبقى منك لك شيء مصداقا لقول أحدهم :
“حقيقة المحبة أن تهب لمن أحببت كُلَّكَ ولا يبقى لك منك شيء”،
و قال آخر: “ما لم تخرج من كليّتك لا تدخل في حد المحبة”
– حسن ثواب الآخرة
شدّة التعلّق بالمحبوب يورّث الحنين والأنين حتى أنّه لا يسكن إلاّ إذا لحق بمحبوبه، لهذا قالت رابعة العدوية: “محب الله لا يسكن أنينه وحنينه حتى يسكن مع محبوبه”، وقال أحدهم : “من قتلته محبته فديته رؤيته، ومن قتله عشقه فديته منادمته”، وفضلا عن كلّ ذلك فقد “ذهب المحبون لله بشرف الدنيا والآخرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: (المرء مع من أحب)، فَهُم مع الله تعالى”.
– تجديد الود للمحبين
وصف بعض العارفين صفة أهل المحبّة الواصلين فقال: جدد لهم الود في كلّ طرفة بدوام الاتصال، وآواهم في كنفه بحقائق السكون إليه حتى أنَّت قلوبهم وحنّت أرواحهم شوقا، وكان الحب والشوق منهم إشارة من الحق إليهم .